كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ {زُيِّنَ} بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ {قَتْلُ} وَنَصَبَ {أَوْلَادَهُمْ} مَفْعُولًا لِلْقَتْلِ وَجَرَّ الشُّرَكَاءَ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إِلَيْهِ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ بِمَفْعُولِهِ، وَهُوَ غَيْرُ فَصِيحٍ فِي عُرْفِ النُّحَاةِ وَإِنْ أَجَازُوهُ حَتَّى فِي غَيْرِ الشِّعْرِ؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَلِطَ ابْنُ عَامِرٍ لِظَنِّهِ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَهَا مِنْ كِتَابَةِ بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَانْتَصَرَ لَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الْأَلْفِيَّةِ وَشَنَّعُوا عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي إِنْكَارِهَا وَكَانُوا يُكَفِّرُونَهُ بِهِ، وَلَكِنْ سَبَقَهُ بِهِ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْقُرْآنُ مِنْ جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ الثَّابِتَةِ بِالتَّوَاتُرِ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَقَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ فَصِيحَةً عَلَى لُغَةِ الْقَبِيلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ بِبَيَانِ عَمَلِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَصِيحَةً عِنْدَ مَنْ رَاعَى جُمْهُورُ النُّحَاةِ لُغَاتِهِمْ فِي الْقَوَاعِدِ، وَقَدْ يَكُونُ وُرُودُ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الشَّائِعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ شَاذًّا؛ لِنُكْتَةٍ تَجْعَلُهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ بِمَكَانٍ كَإِفَادَةِ مَعْنًى جَدِيدٍ مَعَ مُنْتَهَى الْإِيجَازِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْقِرَاءَاتِ. وَمَعْنَاهَا زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ شُرَكَائِهِمْ لِأَوْلَادِهِمْ أَيِ اسْتَحْسَنُوا مَا تُوَسْوِسُهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ مِنْ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ مِنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ. فَفَائِدَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذًا تَذْكِيرُ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ بِقُبْحِ طَاعَةِ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءِ فِي أَفْظَعِ الْجَرَائِمِ وَالْجِنَايَاتِ وَهُوَ قَتْلُ الْأَوْلَادِ.
ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا التَّزْيِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ لِيُرْدُوهُمْ، أَيْ يُهْلِكُوهُمْ بِالْإِغْوَاءِ وَهُوَ إِفْسَادُ الْفِطْرَةِ، الَّذِي يُذْهِبُ بِمَا أُوْدِعَ فِي قُلُوبِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ عَوَاطِفِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، بَلْ يَقْلِبُهَا إِلَى مُنْتَهَى الْوَحْشِيَّةِ وَالْقَسْوَةِ، حَتَّى يَنْحَرَ الْوَالِدُ رَيْحَانَةَ قَلْبِهِ بِمُدْيَتِهِ. وَيَدْفِنَ بِنْتَهُ الضَّعِيفَةَ وَهِيَ حَيَّةٌ بِيَدِهِ. فَهَذَا إِرْدَاءٌ نَفْسِيٌّ مَعْنَوِيٌّ فَوْقَ الْإِرْدَاءِ الْحِسِّيِّ وَهُوَ الْقَتْلُ وَتَقْلِيلُ النَّسْلِ. وَأَمَّا لَبْسُ دِينِهِمْ عَلَيْهِمْ فَالْمُرَادُ بِالدِّينِ فِيهِ مَا كَانُوا يَتَّبِعُونَهُ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدِ اشْتَبَهَ وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ هَذِهِ التَّقَالِيدِ الشِّرْكِيَّةِ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يُعْرَفُ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ يُتَّبَعُ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ الشِّرْكِيَّةِ الَّتِي لَا تَزَالُ تُبْتَدَعُ، فَاللَّبْسُ: الْخَلْطُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ الَّذِي يَشْتَبِهُ فِيهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ دِينُهُمُ الَّذِي وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لِيُوقِعُوهُمْ فِي دِينٍ مُلْتَبَسٍ مُشْتَبَهٍ لَا تَتَجَلَّى فِيهِ حَقِيقَةٌ، وَلَا تَخْلُصُ فِيهِ هِدَايَةٌ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، وَتَزْيِينَهُمْ وَسْوَسَتُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ هُمْ سَدَنَةُ الْآلِهَةِ فَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ؛ لِأَنَّ السَّدَنَةَ لَا تَقْصِدُ الْإِرْدَاءَ لَهُمْ وَلَبْسَ الدِّينِ عَلَيْهِمْ كَذَا قِيلَ: وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْإِرْدَاءِ، وَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي لَبْسِ الدِّينِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّدَنَةِ وَالْكَهَنَةِ يَقْصِدُونَ الْعَبَثَ بِدِينِ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ وَيَدِينُ لَهُمُ الْتِذَاذًا بِطَاعَتِهِمْ وَاسْتِعْلَاءً بِالرِّيَاسَةِ فِيهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا يَفْعَلَ الشُّرَكَاءُ ذَلِكَ التَّزْيِينَ، أَوِ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ الْقَتْلَ لَمَا فَعَلُوهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُغَيِّرَ خَلْقَهُمْ وَسُنَنَهُ الْحَكِيمَةَ فِيهِمْ. وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِهِ وَلَا لِسُنَنِهِ أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ النَّاسَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ مَطْبُوعِينَ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى طَبْعًا لَا يَسْتَطِيعُونَ غَيْرَهُ كَالْمَلَائِكَةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ إِغْوَاءٌ، بَلْ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ وَسْوَسَةٌ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِهَا، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ النَّاسَ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّأَثُّرِ بِكُلِّ مَا يَرِدُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ، وَلِاخْتِيَارِ مَا يَتَرَجَّحُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَلِأَجْلِ هَذَا يَغْلِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مَا رَسَخَ فِي نَفْسِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَتَأْثِيرِ الْمُعَاشَرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا اسْتِعْدَادًا وَاسْتِفَادَةً، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ أَوْ رَأْيٍ وَاحِدٍ، فَدَعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِانْتِحَالِ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَيْهَا وَعَلَيْكَ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَلِلَّهِ تَعَالَى سُنَنٌ فِي الِاهْتِدَاءِ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، فَلَا يُحْزِنْكَ أَمْرُهُمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ أَنْ يَغْلِبَ حَقُّكَ بَاطِلَهُمْ.
هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ الْمُوَافِقِ لِكِتَابِ اللهِ وَمُقْتَضَى صِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي أَخْبَرَ بِأَنَّهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ تَعَالَى قَدْ تَعَلَّقَتْ بِأَنْ يَقْتُلَ هَؤُلَاءِ أَوْلَادَهُمْ تَعَلُّقًا ابْتِدَائِيًّا بِأَنْ يَكُونَ أَمْرًا خَلْقِيًّا كَدَوَرَانِ الدَّمِ فِي الْبَدَنِ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إِلَى تَرْكِهِ، كَيْفَ وَقَدْ وَصَفَهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَدْ تَرَكُوا هَذَا السَّفَهَ بِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ لِلْجَبْرِيَّةِ وَإِنْ لَهَجَ بِهَا خَوَاصُّهُمْ وَعَوَامُّهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا فَهْمٍ.
{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا} هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنْ أَحْكَامِهِمُ الْمُخْتَرَعَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى غِوَايَةِ شِرْكِهِمْ. فَالْأَوَّلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَطِعُونَ بَعْضَ أَنْعَامِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ مِنَ الْحُبُوبِ وَغَيْرِهَا وَيَمْنَعُونَهُ التَّصَرُّفَ فِيهَا إِلَّا فِيمَا يَخُصُّونَهَا لَهُ تَعَبُّدًا وَيَقُولُونَ: (هِيَ حِجْرٌ) وَهُوَ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْمَحْجُورِ الْمَمْنُوعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، كَالذَّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ وَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ، وَيَجْرِي وَصْفًا لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ- حُكْمَ الْأَسْمَاءِ- غَيْرُ الصِّفَاتِ، وَأَصْلُهُ مَا أُحِيطَ بِالْحِجَارَةِ وَمِنْهُ حِجْرُ الْكَعْبَةِ وَسُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِمَّا يَضُرُّ وَيُقَبِّحُ مِنَ الْأَعْمَالِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: الْحِجْرُ الْحَرَامُ مِمَّا حَرَّمُوا مِنَ الْوَصِيلَةِ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا انْتَهَى أَيْ وَمَا حَرَّمُوا مِنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: حِجْرٌ أَيِ احْتَجَرُوهَا لِآلِهَتِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حِجْرٌ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَتَغْلِيظٌ وَتَشْدِيدٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ اللهِ. أَيْ وَلِهَذَا قَالَ بِزَعْمِهِمْ. قَالُوا: وَكَانُوا يَحْتَجِرُونَهَا عَنِ النِّسَاءِ وَيَجْعَلُونَهَا لِلرِّجَالِ، وَقَالُوا: إِنْ شِئْنَا جَعَلْنَا لِلْبَنَاتِ فِيهِ نَصِيبًا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَجْعَلْ.
وَهَذَا أَمْرٌ افْتَرَوْهُ عَلَى اللهِ وَالثَّانِي أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا: أَيْ أَنْ تُرْكَبُ. قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْحَامِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [5: 103].
وَالثَّالِثُ أَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا فِي الذَّبْحِ، بَلْ يُهِلُّونَ بِهَا لِآلِهَتِهِمْ وَحْدَهَا. وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ: كَانُوا لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا فَلَا يُلَبُّونَ عَلَى ظُهُورِهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مِنْ إِبِلِهِمْ طَائِفَةٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهَا، لَا إِنْ رَكِبُوا وَلَا إِنْ حَلَبُوا وَلَا إِنْ حَمَلُوا وَلَا إِنْ سَحَبُوا وَلَا إِنْ عَمِلُوا شَيْئًا اهـ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا أَنْعَامَهُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ الَّذِي جَعَلُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ فَنَسَبُوهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى حُكْمًا وَدِيَانَةً {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} أَيْ قَالُوهُ أَوْ فَعَلُوهُ مُفْتَرِينَ إِيَّاهُ أَوِ افْتَرَوْهُ افْتِرَاءً وَاخْتَلَقُوهُ اخْتِلَاقًا وَاللهُ بَرِيءٌ مِنْهُ لَمْ يُشَرِّعْهُ لَهُمْ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِ اللهِ أَنْ يُحَلِّلَ أَوْ يُحَرِّمَ عَلَى الْعِبَادِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [10: 59] أَيْ بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ بَعْضُ النَّاسِ يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى النَّاسِ بِأَهْوَائِهِمْ أَوْ تَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ وَالْمُنْتَحِلِينَ لِمَذَاهِبِهِمْ، إِمَّا مُوَقَّتًا بِيَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ تَنَسُّكِ تَصَوُّفٍ، وَإِمَّا تَحْرِيمًا مُطْلَقًا دَائِمًا، وَهُمْ يَجْهَلُونَ عَلَى ادِّعَائِهِمْ لِلْعِلْمِ وَالدِّينِ، أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سُوءَ حَالِهِمْ، وَذُيِّلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِبَيَانِ سُوءِ مَآلِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أَيْ سَيُجْزَوْنَ الْجَزَاءَ الشَّدِيدَ الْأَلِيمَ بِسَبَبِ هَذَا الِافْتِرَاءِ الْقَبِيحِ.
{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ أَحْكَامِهِمُ السَّخِيفَةِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا فِي بُطُونِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ مِنَ اللَّبَنِ وَالْأَجِنَّةِ، رُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْعَامِ هُنَا الْبَحَائِرُ وَحْدَهَا أَوْ هِيَ وَالسَّوَائِبُ، كَانُوا يَجْعَلُونَ لَبَنَهَا لِلذُّكُورِ وَيُحَرِّمُونَهُ عَلَى الْإِنَاثِ، وَكَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا حَيًّا جَعَلُوهُ خَالِصًا لِلذُّكُورِ لَا تَأْكُلُ مِنْهُ الْإِنَاثُ وَإِذَا كَانَ مَيْتًا اشْتَرَكَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَإِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى تَرَكُوهَا لِأَجْلِ النِّتَاجِ. وَبَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ لَمْ يُقَيِّدُوا هَذِهِ الْأَنْعَامَ بِالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي أَنْعَامٍ أُخْرَى يُعَيِّنُونَهَا بِغَيْرِ وَصْفِ الْبَحِيرَةِ أَيْ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ وَتُتْرَكُ لِلْآلِهَةِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا أَحَدٌ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْبَحِيرَةَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا الرِّجَالُ وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي شَأْنِ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ لَا فِي نَفْسِهَا فَلَا يَصِحُّ إِدْخَالُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا- قُلْنَا يَصِحُّ ذَلِكَ بَلْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ.
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ {وَإِنْ تَكُنْ} بِالتَّاءِ وَ{مَيْتَةٌ} بِالرَّفْعِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: {يَكُنْ} بِالْيَاءِ و{مَيْتَةٌ} بِالرَّفْعِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ {يَكُنْ} بِالْيَاءِ و{مَيْتَةً} بِالنَّصْبِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَيْسَ فِي قِرَاءَتِهِ إِلَّا تَأْنِيثُ الْفِعْلِ {تَكُنْ} لِتَأْنِيثِ خَبَرِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ فَقَالُوا: إِنَّ فِيهَا حَذْفَ الْخَبَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ مَيْتَةٌ- أَوْ- وَإِنْ يَكُنْ هُنَاكَ مَيْتَةٌ، وَتَذْكِيرُ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ بِمَعْنَى الْمَيِّتِ، وَهَذَا يُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْأَنْعَامِ نَفْسِهَا وَبِأَجِنَّتِهَا الَّتِي فِي بُطُونِهَا وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إِذَا جُعِلَتْ {يَكُنْ} بِمَعْنَى يُوجَدُ أَيْ فِعْلًا تَامًّا. وَقَالُوا فِي تَقْدِيرِ قِرَاءَةِ عَاصِمٍ: وَإِنْ تَكُنِ الْمَذْكُورَةُ مَيْتَةً، وَهُوَ يَشْمَلُ تِلْكَ الْأَنْعَامَ وَمَا فِي بُطُونِهَا أَيْضًا. بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ مِثْلَ هَذَا فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} بِالنَّصْبِ أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِنْ يَكُنْ مَا فِي بُطُونِ تِلْكَ الْأَنْعَامِ مَيْتَةً. فَالْفَائِدَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ فِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ مَا ذَكَرْنَا وَمَا عَدَاهُ فَاخْتِلَافُ وُجُوهٍ جَائِزَةٍ فِي اللُّغَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: {خَالِصَةٌ} فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ التَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَرَاوِيَةِ وَدَاهِيَةٍ وَطَاغِيَةٍ فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُبْتَدَأِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ خَبَرٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَهُوَ {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} مُذَكَّرُ اللَّفْظِ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِهِ الْأَجِنَّةُ، فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ خَبَرِهِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى- وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فَتَكُونُ الْعِبَارَةُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: عَطَاؤُكَ عَافِيَةٌ، وَالْمَطَرُ رَحْمَةٌ، وَالرُّخْصَةُ نِعْمَةٌ، وَرَابِعُهَا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ أَوْ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَكِنِ فِي الظَّرْفِ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ {لِذُكُورِنَا}.
{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} يُقَالُ: جَزَاهُ كَذَا وَبِكَذَا- أَيْ جَعَلَهُ جَزَاءً لَهُ عَلَى عَمَلٍ عَمِلَهُ، قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [25: 75] إِلَخْ وَقَالَ: {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [21: 29] وَقَالَ: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [10: 52] وَقَالَ: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [27: 90] وَجَعْلُ الْجَزَاءِ عَيْنَ الْعَمَلِ قَدْ تَكَرَّرَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى وَقَدَّرُوا لَهُ كَلِمَةَ جَزَاءٍ أَوْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ مَا يُجَازَى عَلَيْهِ لَا مَا يُجَازَى بِهِ، وَلَكِنَّ تَعْبِيرَ الْكُتَّابِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِنُكْتَةٍ عَالِيَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ، وَهِيَ عِنْدَنَا الْإِيذَانُ بِأَنَّ الْجَزَاءَ لَمَّا كَانَ أَثَرًا لِمَا يُحْدِثُهُ الْعَمَلُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةٍ أَوْ تَدْسِيَةٍ كَانَ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْعَمَلِ، فَإِنَّ النَّفْسَ تُنَعَّمُ أَوْ تُعَذَّبُ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَطْبَعُهَا فِيهَا الْأَعْمَالُ، وَبِهَذَا يَتَجَلَّى لَكَ هُنَا مَعْنَى جَعْلِ جَزَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ فِي التَّشْرِيعِ وَصْفَهُمْ، وَلاسيما إِذَا جُعِلَ الْوَصْفُ هُنَا بِمَعْنَى الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ النَّفْسِ وَصُورَتُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ مَعَ تَعْلِيلِهَا: سَيَجْزِيهِمُ اللهُ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِي الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَنَاشِئِهَا مِنْ صِفَاتِهِمْ، بِأَنْ يَجْعَلَ عِقَابَهُمْ عَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ وَصْفُهُمْ وَنَعْتُهُمُ الرُّوحِيُّ، فَإِنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ فِي الْآخِرَةِ صِفَاتٍ تَجْعَلُهَا فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنْ عِلِّيِّينَ، أَوْ سِجِّينٍ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ، كَمَا أَنَّ صِفَةَ الْجِسْمِ السَّائِلِ الْخَفِيفِ تَقْتَضِي بِسُنَنِ اللهِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْجِسْمِ الثَّقِيلِ كَمَا تَرَى فِي الزَّيْتِ إِذَا وُضِعَ فِي إِنَاءٍ مَعَ الْمَاءِ، وَمَا يَعْرِفُ النَّاسُ مِنْ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي مَوَازِينِهَا الْمَعْرُوفَةِ مِثَالٌ مُوَضِّحٌ لِلْمُرَادِ، فَمَنْشَأُ الْجَزَاءِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ عَقَائِدِهَا وَسَائِرِ صِفَاتِهَا الَّتِي يَطْبَعُهَا الْعَمَلُ عَلَيْهَا. وَإِذَا جُعِلَ الْوَصْفُ مَصْدَرًا فَلابد مِنْ تَقْدِيرِ مَعْمُولِهِ كَأَنْ يُقَالَ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ لِرَبِّهِمْ بِمَا جَعَلُوا لَهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّشْرِيعِ، أَوْ وَصْفَ أَلْسِنَتِهِمُ الْكَذِبَ بِمَا افْتَرَوْا عَلَيْهِ فِيهِمَا: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} [16: 116] الْآيَةُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَادَّةِ وَصْفِ الْأَسَاسِ: وَمِنَ الْمَجَازِ وَجْهُهَا يَصِفُ الْحُسْنَ، وَلِسَانُهُ يَصِفُ الْكَذِبَ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ نَاقَةٌ تَصِفُ الْإِدْلَاجَ. قَالَ الشَّمَّاخُ:
إِذَا مَا أَدْلَجَتْ وَصَفَتْ يَدَاهَا ** لَهَا الْإِدْلَاجَ لَيْلَةَ لَا هُجُوعَ

وَفِي رَوْحِ الْمَعَانِي أَنَّ الْجُمْلَةَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ بَلِيغِ الْكَلَامِ وَبَدِيعِهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: وَصَفَ كَلَامُهُ الْكَذِبَ، إِذَا كَذَبَ، وَعَيْنُهُ تَصِفُ السِّحْرَ أَيْ سَاحِرَةٌ، وَقَدُّهُ يَصِفُ الرَّشَاقَةَ، بِمَعْنَى رَشِيقٍ مُبَالَغَةً حَتَّى كَأَنَّ مَنْ سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ وَصَفَ لَهُ ذَلِكَ بِمَا يَشْرَحُهُ لَهُ: قَالَ الْمَعَرِّيُّ:
سَرَى بَرْقُ الْمَعَرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ ** فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْمَلَالَا

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} حَاصِلُ مَا أَنْكَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي هَذَا السِّيَاقِ يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرَيْنِ الْفَظِيعَيْنِ اللَّذَيْنِ نَعَتْهُمَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَحَكَمَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا حُكْمًا حَقًّا وَعَدْلًا، وَهُوَ أَنَّهُمْ خَسِرُوا بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَبِوَأْدِ الْبَنَاتِ- الْآتِي بَيَانُهُ وَغَيْرُهُ- خُسْرَانًا عَظِيمًا دَلَّ عَلَيْهِ حَذْفُ مَفْعُولِ خَسِرُوا الدَّالِّ عَلَى الْعَوَامِّ فِي بَابِهِ لِيَتَرَوَّى السَّامِعُ فِيهِ، وَيَتَأَمَّلَ مَا وَرَاءَ قَوَادِمِهِ مِنْ خَوَافِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ خُسْرَانَ الْأَوْلَادِ يَسْتَلْزِمُ خُسْرَانَ كُلِّ مَا كَانَ يُرْجَى مِنْ فَوَائِدِهِمْ مِنَ الْعِزَّةِ وَالنُّصْرَةِ، وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْفَخْرِ وَالزِّينَةِ وَالسُّرُورِ وَالْغِبْطَةِ، كَمَا يَسْتَلْزِمُ خُسْرَانَ الْوَالِدِ الْقَاتِلِ لِعَاطِفَةِ الْأُبُوَّةِ وَرَأْفَتِهَا، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالشَّرَاسَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا الْعَيْشُ فِي الدُّنْيَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ؛ وَلِذَلِكَ عُلِّلَ هَذَا الْجُرْمُ بِسَفَهِ النَّفْسِ وَهُوَ اضْطِرَابُهَا وَحَمَاقَتُهَا، وَبِالْجَهْلِ أَيْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَا يَنْفَعُ وَيَضُرُّ وَمَا يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ.
ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدِ هَذَا أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَهَذَا سَفَهٌ وَجَهْلٌ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ دُونَ مَا سَبَقَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى تَعْلِيلِهِ بَشَرِّ مَا فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ وَهُوَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ بِجَعْلِهِ دِينًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ نَتِيجَةَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فِيهِمَا، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ أَقْبَحُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ غِوَايَةِ الشِّرْكِ وَقَدْ عَادَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْهُ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ وَجَعْلِهِ دِينًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يَئِدُ الْبَنَاتِ مِنْ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ. كَانَ الرَّجُلُ يَشْتَرِطُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّكِ تَئِدِينَ جَارِيَةً (أَيْ بِنْتًا) وَتَسْتَحْيِينَ (أَيْ تُبْقِينَ) أُخْرَى، فَإِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ الَّتِي تُوءَدُ غَدَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ أَوْ رَاحَ وَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي (أَيْ مُحَرَّمَةً) إِنْ رَجَعْتُ إِلَيْكِ وَلَمْ تَئِدِيهَا، فَتُرْسِلُ إِلَى نِسْوَتِهَا فَيَحْفُرْنَ لَهَا حُفْرَةً فَيَتَدَاوَلْنَهَا بَيْنَهُنَّ فَإِذَا بَصَرْنَ بِهِ مُقْبِلًا دَسَسْنَهَا فِي حُفْرَتِهَا وَيُسَوِّينَ عَلَيْهَا التُّرَابَ- أَيْ وَهِيَ حَيَّةٌ- وَهَذَا هُوَ الْوَأْدُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا صُنْعُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يَقْتُلُ ابْنَتَهُ مَخَافَةَ السِّبَاءِ وَالْفَاقَةِ وَيَغْذُو كَلْبَهُ. اهـ.